فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة النصر:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ}
أي: لدينه الحق على الباطل {وَالْفَتْحُ} أي: فتح مكة الذي فتح الله بينه وبين قومه صلوات الله عليه، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة.
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} أي: ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجًا طوائف وجماعات لا آحادًا، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة؛ إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: فنزِّه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله، وعن أن يخلف وعده في تأييده، وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين. والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المفسدين، والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي: اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله علم أن نفس نبيه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال؛ فلذلك أمره به، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام. والله يتقبل منهم {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أي: إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن، فإذا وجدتْ الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدد همها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال، وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها، وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم. وكأن الله يقول: إذا حصل الفتح وتحقق النصر وأقبل الناس على الدين الحق، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس، فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص. ومن هذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه، فقال فيما روي عنه: «إنه قد نعيت إليه نفسه». هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره.
تنبيهات:
الأول: قال ابن كثير: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدًا؛ فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبيّ. فلما فتح الله عليه مكة، دخلوا في دين الله أفواجًا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانًا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهِر للإسلام ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في(صحيحه) عن عمرو بن سلمة: كنا بماءٍ ممرَّ الناس، وكان يمرُ بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله تعالى أرسله أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغزى في صدري. وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم.... الحديث.
الثاني: قال الرازي: إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت النزول هذه السورة قولان:
أحدهما: أن فتح مكة كان سنة ثمان. ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروي أنه «عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يومًا»؛ ولذلك سميت سورة التوديع.
ثانيهما: أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة وأن يفتحها عليه. ونظيره {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، وقوله: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يقتضي الاستقبال؛ إذ لا يقال فيما وقع: {إِذَا جَاء} و: إذا وقع، وإذا صح القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات؛ من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقًا له؛ والإخبار عن الغيب معجزة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): ولأبي يعلى، من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق، في حجة الوداع فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع.
ثم قال: وسئلت عن قول(الكشاف): أن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صدرت بـ: إذا الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بضعف ما نقله. وعلى تقدير صحته، فالشرط لم يتكمل بالفتح؛ لأن مجيء الناس أفواجًا لم يكن كمل، فبقية الشرط مستقبل.
وقد أورد الطيبي السؤال، وأجاب بجوابين:
أحدهما: أن إذا قد ترد بمعنى إذ كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة: 11] الآية.
ثانيهما: أن كلام الله قديم. وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى. انتهى كلامه.
الثالث: قال الشهاب: المراد بالناس العرب. فـ أل عهدية. أو المراد الاستغراق العرفيّ والمراد عبدة الأصنام منهم؛ لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية.
الرابع: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول فيها: «سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي».
وفيه عنها أيضًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي»، يتأول القرآن.
قال الحافظ ابن حجر: معنى يتأول القرآن، يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار، في أشرف الأوقات والأحوال.
وقال ابن القيم في (الهدى) كأنه أخذه من قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ} لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور؛ فيقول إذا سلم من الصلاة: «أستغفر الله» ثلاثًا. وإذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك». وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ} [البقرة: 199] الآية. اهـ.

.قال دروزة:

سورة النصر:
فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح بحمد اللّه واستغفاره إذا ما جاء نصر اللّه وفتحه ورأى الناس يدخلون في دينه.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة وبكلمة أخرى آخر السور المدنيّة نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنيّة نزولا أو كسادسة عشرة أو كثامنة عشرة بل إن هناك رواية بأنها مكيّة فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة حديث عن ابن عباس جاء فيه «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلّا ليريهم.
قال ما تقولون في قول اللّه تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم أمرنا أن نحمد اللّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم. فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا. فما تقول. قلت هو أجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعلمه به قال إذا جاء نصر اللّه والفتح وذلك علامة أجلك فسبّح بحمد ربك واستغفر. إنه كان توابا فقال عمر ما أعلم منها إلّا ما تقول»
. وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس جاء فيه «لما نزلت قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نعيت إلى نفسي كأني مقبوض في تلك السنة».
وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبري عن الضحاك قوله كانت هذه السورة آية لموت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا وأنها نزلت في حجة الوداع في منى وذكر النيسابوري- مع ذكره القول إنها مكيّة- أنها نزلت في أواسط أيام التشريق في منى في حجة الوداع وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعدها إلّا سبعين يوما وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع.
ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكثر قبل أن يموت من قوله سبحانك اللّهمّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. فقلت يا رسول اللّه ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها قال قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخر السورة».
وعن أم سلمة قالت: «كان رسول اللّه في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان اللّه وبحمده فقلت يا رسول اللّه إنك تكثر من سبحان اللّه وبحمده. لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت سبحان اللّه وبحمده قال: إني أمرت بها فقال: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخر السورة» والحديثان يؤيدان إذا صحّا كون السورة نزلت بين يدي موت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو اللّه تسبيحا وحمدا واستغفارا.
وبناء على ذلك كلّه رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة وآخر السور المدنيّة.
ونصّ السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه. أما القول إنها مكيّة فهو غريب ينقضه نصّها وروحها والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها.
وما قلناه من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن. وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة. وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم واللّه أعلم.
وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا يدعمان بعضهما ويلهمان معجزة قرآنية ربانية. ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن وفي سورة النصر هتاف رباني بما تمّ من نصر اللّه للدعوة الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النصر (110): الآيات 1- 3]
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا}
تعليق على آيات السورة ومداها وما روي في صددها:
عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما عليه الجمهور بدون خلاف. وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة.
وواجب التسبيح للّه وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت. وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتمّ اللّه على نبيه نعمته ويسّر له الفتح والنصر وأقبل الناس على دين اللّه أفواجا.
وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب، والآيات بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم اللّه عزّ وجلّ بالشكر والحمد والاستغفار وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين اللّه وكلمته. ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية اللّه وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه.
وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر اللّه وفتحه ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا. غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب وأن ذلك المجيء قد جاء. والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر.
ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح. ولقد تمّ هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة.
والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة أقل من ثلاثة أشهر وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها اللّه لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى قبيل وفاته والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في دين اللّه أفواجا واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بتوطد سلطان النبي والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة ومما أطنبت به كتب السيرة والتاريخ القديمة، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام، وحج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس حشد عظيم من المسلمين روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر- وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت- حتى هتف اللّه تعالى بالمؤمنين أو هتف النبي صلى الله عليه وسلم مرددا هتاف اللّه- الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة- {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [3].
نبذة عن حجة الوداع النبوية:
وحجة الوداع المشار إليها قد تمّت في أواخر السنة الهجرية العاشرة. فلقد فتح اللّه تعالى على رسوله مكة في رمضان في السنة الثامنة. ولم يكن الشرك قد اندحر بالمرة عن ربوعها. وكان المشركون ما يزالون يقومون بطقوس حجهم فيها.
فلم تشأ حكمة اللّه ورسوله أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التامة والمشركون شركاء في حجه. ولما كانت مكة وما جاورها قد دخلت في سلطانه فقد عيّن وزيره الصدّيق أبا بكر رضي اللّه عنه أميرا على الحجّ في السنة التاسعة وأمره أن يعلن للملأ حظر دخول منطقة المسجد الحرام على المشركين وبراءة اللّه ورسوله منهم على ما شرحناه في سورة التوبة. فلما كانت السنة العاشرة خرج على رأس حشد عظيم من المسلمين من أهل المدينة وقبائلها ليحج بالناس حجة لا يشهدها إلّا المسلمون وهي التي عرفت بحجة الوداع لأنه مات صلى الله عليه وسلم بعدها بمدة قصيرة ونزلت فيها هذه السورة التي احتوت نعيا له وسميت سورة التوديع بسبب ذلك. وقد وافاه إلى مكة حشود عظيمة أخرى من المسلمين من مختلف أنحاء الجزيرة فكان أعظم حجّ تمّ في عهده بل نعتقد أنه كان أعظم حجّ وقع إلى عهده. وإذا كان عدد الذين اشتركوا في غزوة تبوك بلغ ثلاثين ألفا كما ذكرنا في سياق سورة التوبة فلا مبالغة في تخمين عدد الذين شهدوا هذا الحج بضعف هذا العدد وهو رقم عظيم جدّا في ذلك الوقت.
وخبر حجة الوداع ورد مطولا بطرق مختلفة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ القديمة مرويّا عن التابعين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وقد روى مسلم وأبو داود حديثا طويلا فيه وصف شائق لموكب الحجّ وكثير من أفعال وأقوال ومواقف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التعليمية والتوضيحية والتشريعية والتهذيبية. فرأينا إيراده برمته. وهو مروي عن صاحب رسول اللّه جابر بن عبد اللّه في أيام شيخوخته جوابا على سؤال من أحد التابعين.
وهذا نصه «إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول اللّه حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول اللّه ويعمل مثل عمله. وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول اللّه كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي. فصلّى رسول اللّه في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول اللّه بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. فأهلّ لبّيك اللّهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به فلم يردّ رسول اللّه عليهم شيئا منه. ولزم رسول اللّه تلبيته.
قال جابر: لسنا ننوي إلّا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت وكان يقرأ في الركعتين {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد (1)} و{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)} ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] ابدأوا بما بدأ اللّه فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحّد اللّه وكبّره وقال: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا اللّه وحده. أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول اللّه العامنا هذا أم لأبد؟ فشبّك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج، مرتين. لا بل لأبد أبد»
.
وقدم على من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان على يقول بالعراق فذهبت إلى رسول اللّه محرّشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: «صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟»
قلت: اللّهمّ إني أهلّ بما أهلّ به رسولك قال: «فإن معي الهدي فلا تحلّ.»
قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به على من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة.
قال: فحلّ الناس كلهم وقصّروا إلّا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحج وركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا تشكّ قريش إلّا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية فأجاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن سبيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلّه. اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللّه. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟» قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس «اللّهمّ اشهد ثلاث مرات». ثم أذن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس. وأردف أسامة خلفه ودفع رسول اللّه وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول أي يشير بيده اليمنى «أيها الناس السكينة السكينة» كلّما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد إلى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان وأحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا.
ثم اضطجع رسول اللّه حتى طلع الفجر وصلّاه حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا اللّه وكبّره وهلّله ووحّده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول اللّه مرّت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع النبي يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحوّل رسول اللّه يده إلى الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول اللّه فأفاض إلى البيت وصلّى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه».
وروى الشيخان وأحمد عن ابن عباس حديثا فيه بعض أقوال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجة وداعه جاء فيه: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس أيّ يوم هذا قالوا يوم حرام. قال فأيّ بلد هذا قالوا بلد حرام. قال فأيّ شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال: «اللّهمّ هل بلّغت اللّهمّ هل بلّغت فليبلّغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
قال ابن عباس فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته.
وفي رواية «وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في حجّته التي حجّ بها وقال هذا يوم الحجّ الأكبر. وطفق يقول اللّهمّ اشهد. وودّع الناس فقالوا هذه حجّة الوداع». وفي كل من سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد فصل طويل مسلسل الرواة إلى أحد أصحاب رسول اللّه أو تابعيهم متطابق مع هذا الحديث مع بعض زيادات مهمة فيها تعليم وتشريع وتهذيب. فمما جاء في فضله في طبقات ابن سعد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حينما شاهد الكعبة عند قدومه إلى مكة قال: «اللّهمّ زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظّمه ممن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» وأنه وقف بالهضاب في عرفات وقال: «كل عرفة موقف إلا بطن عرفة». وحينما جاء إلى المزدلفة قال: «كل المزدلفة موقف إلا بطن محسر».
وأنه بعد نحر الهدي حلق رأسه وأخذ شاربه وعارضيه وقلّم أظفاره وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن ثم أصاب الطيب ولبس القميص ونادى مناديه «إن أيام منى هي أيام أكل وشرب» ثم أقام ثلاث ليال في مكة وقال: إنما هن ثلاث يقيمهن المهاجر بعد الصدر. ثم ودّع البيت وانصرف راجعا إلى المدينة. وروي في الفصل جواب لأنس بن مالك على سؤال عمّا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ بالعمرة والحجّ معا أم أفرد؟
فقال إنه أهلّ بهما معا. وهذا هو المستفاد من الحديث الطويل السابق. ومما ورد في الفصل أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسلمين الخيار بالإفراد بين العمرة والحجّ أو القرآن بينهما.
وقال لمن سألوه: من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة. وتمتّعوا بالعمرة إلى الحج. وأنه دخل الكعبة بعد أن خلع نعليه ولما عاد إلى أهله قال لعائشة فعلت أمرا ليتني لم أفعله دخلت البيت ولعلّ الرجل من أمتي لا يقدر على أن يدخله فينصرف وفي نفسه حزازة. إنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول.
وقال حين وقف في عرفات «الحجّ عرفات أو يوم عرفة. من أدرك ليلة جمع قبل الصبح فقد تمّ حجّه» وقال في موقف آخر «أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. وإنها ليست أيام صيام إنما هي أيام أكل وشرب وذكر» ومما روي من أقواله في خطبة الوداع «إن اللّه قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية. ألا وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر. ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين. يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع إذا أقام فيكم كتاب اللّه. أرقّاءكم أرقّاءكم. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون. وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد اللّه ولا تعذبوهم. ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعلّ بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» وقال لبعض المسلمين حين رآه يتشدد في اختيار الجمرات «إيّاكم والغلوّ في الدين إنما أهلك من كان قبلكم. بالغلوّ في الدين».
ومما رواه ابن هشام من زيادة في خطبته: «أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم. فاحذروه على دينكم. أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه ويحرموا ما أحل اللّه. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى ورجب. أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه. أيها الناس لتعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين أخوة. فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. فلا تظلمن أنفسكم. ألا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا. أمرا بينا. كتاب اللّه وسنّة نبيه. وهتف في آخر خطبته اللّهمّ هل بلّغت فهتف الناس نعم فقال اللّهمّ فاشهد» ومما رواه ابن هشام وفيه تعليم لمناسك الحج أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج لخمس بقين من ذي القعدة. وأن عائشة رضي اللّه عنها حاضت وبكت وقالت واللّه لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا فقال لا تقولن ذلك فإنك تقضين كلّ ما يقضى الحج. إلا أنك لا تطوفين بالبيت. وإن النبي حلّ كل من كان لا هدي له معه وحل نساءه بعمرة. ولم يحلّ هو معهم وقال إني أهديت ولبّدت فلا أحلّ حتى أنحر هديي وأن هدي رسول اللّه كان من البقر وقد نحره يوم النحر. وأن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه رجع من بعثه الذي بعثه به إلى اليمن أثناء الحجّ فأمره النبي أن يطوف ويحل كما فعل أصحابه. فقال له إني أهللت يا رسول اللّه كما أهللت فأعاد عليه القول فقال يا رسول اللّه إني قلت حين أحرمت اللّهمّ إني أهلّ بما أهلّ به نبيك وعبدك ورسولك. فقال فهل معك من هدي قال لا فأشركه رسول اللّه في هديه وثبت على إحرامه. وإن رسول اللّه قال حين وقف على المرتفع الذي وقف عليه هذا الموقف ثم قال وكل عرفة موقف.
وقال حين وقف على هضبة صبيحة المزدلفة هذا الموقف ثم قال وكل المزدلفة موقف. ولما نحر بالمنحر بمنى قال هذا المنحر وكل منى منحر.
وهكذا كانت هذه الحجّة المباركة من أعظم مشاهد الرسالة المحمدية وتتويجا رائعا لها.
نبذة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ولحظاته الأخيرة وصفته وأما وفاته صلى الله عليه وسلم فقد كانت على أشهر الروايات في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة عن ثلاث وستين سنة. ولا تذكر الروايات المرض الذي مات به. وكل ما جاء فيها أنه ألمّت به حمّى رافقها صداع. وأن العباس عمّه رضي اللّه عنه ظنّ أنها ذات الجنب ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما كان اللّه ليقذفني بهذا الداء. ولم يطل مرضه إلّا نحو أسبوعين. ولما شعر بثقل وجعه استأذن من نسائه بالانتقال إلى بيت عائشة تحقيقا لفكرة العدل بينهن فأذنّ له حيث مات في بيتها ودفن فيه وهو المكان المدفون فيه إلى اليوم على التحقيق صلوات اللّه وسلامه عليه.
ومما رواه ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جوف الليل مع أبي مويهبة مولاه وقال له إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه.
أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والآخرة شرّ من الأولى ثم قال يا أبا مويهبة. إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فقال أبو مويهبة بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة قال لا واللّه يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة.
ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول اللّه وجعه الذي قبضه اللّه فيه. ولقد خرج في بعض مرضه عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلّى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر من الصلاة عليهم. ثم قال: يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا فإنّ الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنيهم وتجاوزوا عن مسيئيهم. ثم قال أيها الناس: إن عبدا من عباد اللّه خيّره اللّه بين الدنيا وما عنده فاختار ما عنده، ففهمها أبو بكر فبكى وقال بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال علي رسلك يا أبا بكر ثم قال انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدّوها إلّا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدا كان أفضل من الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع اللّه بيننا عنده.
ولما اشتد برسول اللّه الوجع وجاء بلال يدعوه إلى الصلاة فقال مروا من يصلي بالناس فخرج فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقلت قم يا عمر فصلّ بالناس فقام فلما كبّر سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صوته وكان رجلا مجهرا فقال: «فأين أبو بكر يأبى اللّه ذلك والمسلمون. يأبى اللّه ذلك والمسلمون». ثم بعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلّى عمر الصلاة فصلّى بالناس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأ جيشا وعين لقيادته أسامة بن زيد ليذهب إلى مؤتة في البلقاء لينتقم لجيش ذهب بقيادة أبي أسامة في السنة السابعة الهجرية واستشهد أبوه مع عدد من المسلمين فاستبطأ حركة سير الجيش وسمع أن بعض الناس ينتقدون قيادة أسامة لأنه لا يزال فتى يافعا. فخرج مرة أخرى عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة. وإن كان أبوه لخليقا بها» ووصف له بعضهم دواء يسقونه إياه وهو غائب عن وعيه من الحمّى فقال عمّه لألدنّه (أي لأسقينه الدواء بالقوة) فلدّوه فلما أفاق قال: «من صنع بي هذا قالوا عمك». فقال العباس هذا دواء أتى به نساء جئن من الحبشة.
قال: «ولم فعلتم ذلك؟» فقال عمّه خشينا يا رسول اللّه أن يكون بك ذات الجنب. فقال: «إن ذلك لداء ما كان اللّه ليقذفني به. لا يبق في البيت أحد إلّا لدّ إلّا عمي» فلدّوا عقوبة لهم بما صنعوا به. وفي يوم الاثنين الذي قبض فيه خرج إلى الناس وهم يصلّون الصبح بأمامة أبي بكر فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم حين رأوه فرحا به فتبسم صلوات اللّه عليه فرحا من هيئتهم في صلاتهم. وتفرجوا له (أوسعوا له) فأشار أن أثبتوا. وشعر أبو بكر بالحركة فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتأخر له فأشار له أن يبقى ثم صلى جالسا إلى جانبه وقال أنس راوي هذا إنه لم ير رسول اللّه أحسن هيئة منه في تلك الساعة وقد أقبل على الناس يكلمهم بصوت مرتفع فقال: «يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. وإني واللّه ما تمسكون على بشي ء. إني لم أحلّ إلّا ما أحلّ القرآن. ولم أحرّم إلّا ما حرّم القرآن» وقد اطمأن أبو بكر واستأذنه بالذهاب إلى بيته في محلة السنح قائلا له إني أراك بفضل اللّه ونعمته قد أصبحت بخير فأذن له. غير أن الضحاء لم يكد يشتد حتى توفاه اللّه.
ومما رواه ابن هشام متسلسلا إلى عائشة أنها قالت: كان آخر عهد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وآخر كلمة سمعتها منه لما حضرته الوفاة قوله «بل الرفيق الأعلى». قالت ففهمت أن اللّه تعالى خيّره فاختاره لأنه كان يقول «إن اللّه لم يقبض نبيا حتى يخيّره». وما كان إلّا أن يختار اللّه علينا. وكان آخر ما فعله أنه رأى عود أراك في يد قريب لعائشة فنظر إليه فعرفت أنه يحبّ أن يستنّ فمضغته له حتى لأن ثم أعطته إياه فاستنّ كأشد ما رأته يستنّ بسواك قط.
ومما رواه ابن هشام مسلسلا إلى عبد اللّه بن عباس أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه خرج من عند رسول اللّه في وجعه فسأله الناس كيف أصبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال أصبح بحمد اللّه بارئا فأخذ العباس بيده وقال له: أحلف باللّه لقد عرفت الموت في وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب. فانطلق بنا إلى رسول اللّه فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ولئن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال علي إني واللّه لا أفعل. واللّه لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعد. فتوفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضّحاء من ذلك اليوم. كان مما رواه ابن هشام أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه قد توفي. وإن رسول اللّه ما مات. ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب أربعين ليلة عن قومه ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. واللّه ليرجعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول اللّه وهو مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم قبّله وقال بأبي أنت وأمي. أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم ردّ البردة على وجهه ثم خرج وعمر يكلّم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلّا أن يتكلّم، فأقبل على الناس فلما سمعوا كلامه أقبلوا عليه فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت. ثم تلا قول اللّه: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجزى الله الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران]. فو اللّه لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم.
قال أبو هريرة: قال عمر: فو اللّه ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى عقرت ووقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد مات. وقد تولى غسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل بن عباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رضوان اللّه عليهم. ولم يجردوه بتاتا بل أبقوا قميصه عليه وغسلوه من تحته. ثم كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا. ثم وضع على سريره. وأدخل الناس عليه للصلاة أرسالا. فصلّى عليه الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ثم الصبيان. ولم يؤمّ الناس أحد. واختلفوا في محل دفنه فقال أبو بكر سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبي إلّا دفن حيث يقبض» فدفن في بيت عائشة وسط الليل ليلة الأربعاء. وقد تولّى دفنه علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رضوان اللّه عليهم.
وما تقدم كلّه مقتبس من ابن هشام. وكثير منه وارد في تاريخ الطبري. وفي هذا بعض روايات لم ترد في ابن هشام. وهي مسلسلة الرواة إلى أحد أصحاب رسول اللّه. من ذلك عن عائشة والفضل بن عباس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشتد به الوجع فقال: «أهريقوا على من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد عليهم» فأقعدناه في مخضب ثم صببنا عليه الماء حتى قال: «حسبكم حسبكم» ثم خرج وقد عصب رأسه وأخذ الفضل بن العباس بيده حتى جلس على المنبر وأمر بنداء الناس فاجتمعوا فقال: «أما بعد أيها الناس فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني. ألا وإن أحبّكم إلى من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت اللّه وأنا طيّب الناس. وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارا».
ثم نزل فصلى الظهر ورجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فقام رجل فقال يا رسول اللّه إنّ لي عندك ثلاثة دراهم قال: «أعطه يا فضل» ثم قال يا أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول اللّه عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل اللّه. قال: «ولم غللتها؟» قال كنت إليها محتاجا، قال: «خذها منه يا فضل». ثم قال: «أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له» فقام رجل فقال يا رسول اللّه إني لكذاب إني لفاحش وإني لنؤوم فقال: «اللّهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا أراد». ثم قام رجل فقال واللّه يا رسول اللّه إني لكذاب وإني لمنافق. وما من شيء إلا قد جنيته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي «يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. اللّهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وصيّر أمره إلى خير».
ومن ذلك عن عبد اللّه بن مسعود «أن نبينا وحبيبنا نعى إلينا نفسه قبل موته بشهر فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وشدد فدمعت عينه وقال مرحبا بكم رحمكم اللّه آواكم اللّه حفظكم اللّه رفعكم اللّه نفعكم اللّه وفقكم اللّه نصركم اللّه سلمكم اللّه قبلكم اللّه. أوصيكم بتقوى اللّه وأوصي اللّه بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه. إني لكم نذير وبشير لا تعلوا على اللّه في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم:
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسادًا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
فقلنا: متى أجلك؟ قال: قد دنا الفراق والمنقلب إلى اللّه إلى سدرة المنتهى. قلنا:
فمن يغسلك يا نبي اللّه؟ قال: أهلي الأدنى فالأدنى..
قلنا: ففيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو حلة يمانية..
قلنا: فمن يصلي عليك.
قال: مهلا غفر اللّه لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا، فبكينا وبكى، وقال: إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلّي على جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها. ثم ادخلوا على فوجا فوجا فصلّوا على وسلّموا تسليما ولا تؤذوني بتزكية ولا برنّة ولا صيحة.
وليبدأ بالصلاة على رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، اقرأوا أنفسكم السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة.
قلنا: فمن يدخلك في قبرك يا نبي اللّه؟ قال: أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم. ومن ذلك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اشتدّ برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي أن يتنازع عند نبي فقالوا: ما شأنه أهجر (يعني هل يهذي من شدة الوجع) استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه.
وأوصى بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمدا أو قال فنسيتها»
.
أما صفته صلى الله عليه وسلم فهناك روايات عديدة متقاربة بعضها مقتضب وبعضها مسهب وقد روى ابن سعد عن أبي هالة التميمي وصفا رواه عن ابن أخته الحسن بن علي الذي سأل خاله عن صفته وكان وصّافا فقال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. أطول من المربوع وأقصر من المشذب. عظيم الهامة رجل الشعر إن انفرقت عقيصته فرق وإلّا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفّره أزهر اللون. واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن. بينهما عرق يديره الغضب أقنى العرنين. له نور تعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم. كثّ اللحية. ضليع الفهم. مفلج الأسنان دقيق المسربة. كأن عنقه جيد دمية. في صفاء الفضة. معتدل الخلق. بادنا متماسكا سواء البطن والصدر. عريض الصدر. بعيد ما بين المنكبين. ضخم الكراديس. أنور المتجرد. موصول ما بين اللبة والسرّة بشعر يجري كالخط. عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر. طويل الزندين. رحب الراحة سبط القصب. شثن الكفين والقدمين. سائل الأطراف. خمصان الأخمصين. مسيح القدمين ينبو عنهما الماء. إذا زال زال قلعا. يخطو تكفؤا ويمشي هونا. ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جميعا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. يعني جلّ نظره الملاحظة. يسبق أصحابه. يبدر من لقي بالسلام. وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متواصلا للأحزان. دائم الفكرة. ليست له راحة. لا يتكلم في غير حاجة. طويل السكت يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه. ويتكلم بجوامع الكلم فصل لا فضول ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت. لا يذم منها شيئا. لا يذم ذواقا. ولا يمدحه. لا تغضبه الدنيا وما كان لها فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها. إذا تعجب قلبها. وإذا تحدث اتصل بها. يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى. وإذا غضب أعرض وأشاح. وإذا فرح غضّ طرفه. جلّ ضحكه التبسم. ويفتر عن مثل حبّ الغمام. وكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءا للّه وجزءا لأهله وجزءا لنفسه. ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس فيسرد ذلك على العامة بالخاصة. ولا يدّخر عنهم شيئا. يؤثر أهل الفضل ناديه. وقسمه على قدر فضلهم في الدين. وكان يقول: «ليبلغ الشاهد الغائب. وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته. فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت اللّه قدميه يوم القيامة». لا يذكر عنده إلّا ذلك ولا يقبل من أحد غيره. لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. يعطي كل جلسائه بنصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو قاومه في حاجة صابرة حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا في الحق عنده سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا تؤبن فيه الحرم ولا تثنّى فلتأته متعادلين. يتفاضلون فيه بالتقوى. متواضعين يوقرون فيه الكبير. ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة. ويحفظون أو يحوطون الغريب. وكان دائم البشر سهل الخلق. ليّن الجانب. ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب يتغافل عما لا يشتهي. ولا يدنس منه ولا يجنب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار ومما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث. لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته. ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه.
إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده. فكان يضحك مما يضحكون ويتعجب مما يتعجبون منه ويصبر للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته ويقول: «إذا رأيتم طالب الحاجة بطلبها فأردفوه» ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام. وكان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقرير والتفكير. فأما تقريره ففي تسوية النظر والاستماع من الناس. وأما تذكره أو تفكره ففيما يبقى ويفنى. وجمع الحلم والصبر وكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى ليقتدي به. وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته. والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة. صلى الله عليه وسلم صلاة وتسليما دائمين متناسبين مع جلالة قدره وعظمة أخلاقه وبالغ جهده في سبيل تبليغ رسالة ربّه ونشر دينه. اهـ.